البيانات الختامية في محاكمة الحسن، ©ICC-CPI
مصدر الصورة: https://flic.kr/p/2oCkd86
توقيف الهشري، خطوة نحو المساءلة في ليبيا
بقلم أستريد بوخناكيان / جنيف للعدالة
الترجمة العربية: محمد الهنداوي / جنيف للعدالة
في السادس عشر من تموز/ يوليو 2025، نفّذت السلطات الألمانية المختصة أمر توقيف بحق المواطن الليبي خالد محمد علي الهشري، المعروف أيضًا باسم "البوطي"، وذلك في مطار برلين براندنبورغ الدولي. وقد تم تنفيذ هذا الإجراء استنادًا إلى مذكرة توقيف سرية صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بتاريخ العاشر من تموز/ يوليو 2025، بموجب الولاية القضائية للمحكمة ووفقًا للالتزامات القانونية المترتبة على جمهورية ألمانيا الاتحادية باعتبارها دولة طرف في نظام روما الأساسي. وقد وُضع السيد الهشري رهن الاحتجاز الرسمي لدى السلطات الألمانية، في إطار آليات التعاون الدولي ما بين جمورية ألمانيا الاتحادية و المحكمة الجنائية الدولية.
الوضع الليبي و حيثياته أمام المحكمة الجنائية الدولية
تشير الادعاءات إلى أن السيد الهشري تولّى منصب المسؤول الأعلى رتبة في سجن معيتيقة، وهو مركز احتجاز يقع قرب طرابلس، ليبيا[1]، حيث يُعتقد أن آلاف الأشخاص احتُجزوا لفترات مطولة دون ضمانات إجرائية كافية. ويُشتبه في مسؤوليته الجنائية عن جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب ارتُكبت في هذا السياق، سواء من خلال إصدار الأوامر بارتكابها أو الإشراف المباشر على تنفيذها، لا سيما جرائم القتل، والتعذيب، والعنف الجنسي، وذلك خلال الفترة الممتدة من شباط/فبراير 2015 وحتى بداية عام 2020. ويُعتقد كذلك أن السيد الهشري كان عضوًا في قوة الردع الخاصة، وهي وحدة شرطة ذات طابع عسكري تابعة للمجلس الرئاسي الليبي، الذي يُعد الهيئة التنفيذية للحكومة الليبية المعترف بها دوليًا منذ عام 2016.
في شباط/ فبراير2011، قرر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إحالة الوضع في ليبيا إلى المحكمة الجنائية الدولية[2]، استنادًا إلى المادة 13(ب) من نظام روما الأساسي، نظرًا لكون ليبيا ليست دولة طرفًا في النظام. وقد استند المجلس في قراره إلى ما وصفه بـ"العنف المفرط واستخدام القوة ضد المدنيين"، إلى جانب "الانتهاكات الجسيمة والمنهجية لحقوق الإنسان، بما في ذلك القمع العنيف للمظاهرات السلمية" التي اندلعت خلال الأيام الأولى للاحتجاجات المناهضة لنظام معمر القذافي. وقد شهدت هذه الاحتجاجات تصعيدًا متسارعًا نتيجة القمع الذي مارسته القوات الحكومية بحق المتظاهرين في عدد من المدن الليبية، مما أدى إلى اندلاع انتفاضة شعبية واسعة النطاق في مختلف أنحاء البلاد، انتهت بإسقاط النظام الحاكم في تشرين الأول/أكتوبر 2011.
في آذار/مارس 2011، شرعت المحكمة الجنائية الدولية في فتح تحقيق رسمي بشأن الجرائم المزعومة ضد الإنسانية وجرائم الحرب المرتكبة في سياق الوضع في ليبيا، اعتبارًا من 15 شباط/فبراير [3]2011 . ومنذ ذلك الحين، أصدرت المحكمة ما مجموعه 12 مذكرة توقيف، من بينها مذكرات بحق الراحل معمر القذافي، ونجله سيف الإسلام القذافي، إلى جانب عدد من كبار المسؤولين العسكريين، بمن فيهم السيد الهيشري.
وفي أيار/مايو 2025، أبلغت الدولة الليبية المحكمة الجنائية الدولية بقبول اختصاصها، استنادًا إلى أحكام المادة 12 (3) من نظام روما الأساسي، وذلك حتى عام 2027. ويتيح هذا القبول للمحكمة ممارسة اختصاصها على الجرائم الدولية المرتكبة من قبل مواطنين ليبيين، أو ضدهم، أو تلك التي وقعت على إقليم الدولة الليبية، وذلك اعتبارًا من 15 شباط/فبراير 2011. وحتى مطلع تموز/يوليو 2025، لا يزال ثمانية من الأفراد الصادرة بحقهم مذكرات توقيف من قبل المحكمة في حالة فرار ولم يُلقَ القبض عليهم بعد.
بيان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم أ. أ. خان، أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة
حول الوضع في ليبيا، أيار/مايو 2025.
© صورة الأمم المتحدة/مانويل إلياس، مصدر الصورة: https://www.icc-cpi.int/news
تأثير توقيف الهيشري
يمثّل توقيف السيد الهشري تطورًا جوهريًا في مسار جهود المحكمة الجنائية الدولية الرامية إلى ترسيخ مبدأ المساءلة عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في ليبيا. وعلى الرغم من أن غالبية المشتبه بهم لا يزالون في حالة فرار، فإن هذا الحدث يُبرز فعالية التعاون بين المحكمة والدول الأطراف في نظام روما الأساسي، وقدرته على تحقيق نتائج ملموسة.
وفي ظل ما تواجهه المحكمة من انتقادات متصاعدة وضغوط سياسية، بما في ذلك من بعض الدول الأطراف[4]، يكتسب الالتزام المستمر بأحكام نظام روما الأساسي أهمية بالغة لضمان قدرة المحكمة على أداء ولايتها القضائية بكفاءة، وتعزيز قدرتها على تحقيق العدالة فيما يتعلق بالجرائم الدولية الواقعة ضمن اختصاصها.
أهمية تنفيذ مذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية
تأتي عملية توقيف السيد الهشري في وقت تواجه فيه المحكمة الجنائية الدولية تحديات متزايدة تتعلق بتنفيذ مذكرات التوقيف الصادرة عنها، في ظل امتناع عدد من الدول عن الامتثال لالتزاماتها القانونية بموجب نظام روما الأساسي. فعلى الرغم من أن جميع الدول الـ125 الأطراف في النظام مُلزَمة قانونًا بالتعاون الكامل مع المحكمة وتنفيذ أوامرها القضائية، فقد امتنعت بعض هذه الدول مؤخرًا عن تنفيذ مذكرات التوقيف، لا سيما في القضيتين المتعلقتين برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وقد بررت دول عدة، مثل المجر وفرنسا ومنغوليا، هذا الامتناع بالاستناد إلى الحصانة السيادية التي يتمتع بها رؤساء الدول، أو بدوافع ومصالح سياسية. فيما استندت دول أخرى، من بينها إيطاليا، إلى عوائق قانونية داخلية لتبرير عدم التنفيذ. ففي قضية أسامة السمري نجيم، وهو أحد المشتبه بهم الآخرين في سياق الوضع الليبي، ألقت السلطات الإيطالية القبض عليه في كانون الثاني/يناير 2025، لكنها أفرجت عنه في أوائل شباط/فبراير من العام ذاته، مستندة إلى ما وصفته بـ"أخطاء ومغالطات" في مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية. ورغم ذلك، صرّح وزير الداخلية الإيطالي، ماتيو بيانتيدوسي، بأن نجيم يُمثّل "خطرًا على الأمن القومي".[5]
ويُزعم أن السيد نجيم، بصفته ضابطًا رفيع المستوى في سجن معيتيقة ورئيسًا للشرطة القضائية الليبية، مسؤول عن ارتكاب انتهاكات جسيمة للقانون الدولي، تشمل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، من بينها القتل والاغتصاب والتعذيب، ارتُكبت في مركز الاحتجاز منذ شباط/فبراير 2015 وحتى السنوات اللاحقة[6].
تواجه المحكمة الجنائية الدولية انتقادات مستمرة تتعلق بما يُنظر إليه على أنه ازدواجية في المعايير، لا سيما في ما يتعلق بتركيزها غير المتوازن على ملاحقة المشتبه بهم من الدول الإفريقية. كما وُجّهت إليها انتقادات بشأن ما اعتُبر تجاوزًا لسيادة الدول الأطراف، عند مباشرتها التحقيق في الجرائم الدولية المرتكبة على أراضي تلك الدول، سواء من قبل مواطنيها أو ضدهم، وملاحقة المسؤولين عنها قضائيًا.
ومن الجوهري التأكيد على أن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية يُعدّ اختصاصًا تكميليًا، ولا يُفعل إلا في حال تبيّن أن الدولة المعنية غير قادرة أو غير راغبة في إجراء تحقيقات وملاحقات قضائية حقيقية ضد الأفراد الذين يُشتبه في مسؤوليتهم عن ارتكاب الجرائم الدولية، أو الأمر بها، أو التحريض عليها، أو تقديم المساعدة والمساهمة الفعلية في ارتكابها، شريطة أن يكون هؤلاء الأفراد من مواطني تلك الدولة، أو أن تكون الجرائم قد ارتُكبت ضد مواطنيها، أو وقعت على إقليمها. وبناءً عليه، فإن الولاية القضائية للمحكمة تنحصر في الحالات التي تعجز فيها الدول أو تمتنع عن مساءلة الجناة، بما يضمن عدم إفلاتهم من العقاب، ويعزز سبل إنصاف الضحايا وتحقيق العدالة الجنائية الدولية.
قضية نتاغاندا: الدائرة الابتدائية الثانية تصدر قرارًا بشأن التعويضات، ©ICC-CPI
مصدر الصورة: https://flic.kr/p/2oPt17n
إن امتناع الدول عن تنفيذ أوامر التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية يقوض بشدة فعالية المحكمة في محاسبة المسؤولين عن الجرائم الدولية، مما يساهم في الإفلات من العقاب ويضعف في نهاية المطاف سيادة القانون على نطاق عالمي.
المحكمة الجنائية الدولية وجهود مكافحة الإبادة الجماعية في فلسطين
إن تقاعس الدول عن تنفيذ أوامر التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية في سياق الحالة في دولة فلسطين يُقوّض بشكل جوهري الاستجابة الدولية المنسقة لوقف الفظائع الجسيمة المرتكبة في قطاع غزة، بما في ذلك ما يُشتبه في كونه جريمة إبادة جماعية مستمرة. فعلى الرغم من إصدار المحكمة مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، بتهم تشمل جرائم حرب متمثلة في التجويع المتعمد كوسيلة من وسائل الحرب وتوجيه هجمات ممنهجة ضد السكان المدنيين، إلى جانب جرائم ضد الإنسانية كالقتل والاضطهاد والأفعال اللاإنسانية الأخرى [7]فإن حجم وخطورة الانتهاكات في قطاع غزة تستدعي من المحكمة الجنائية الدولية أن تنظر بجدّية في إدراج تهمة الإبادة الجماعية ضمن نطاق الملاحقة القضائية.
ففي ظل مقتل أكثر من 60,000 مدني [8]، والدمار الشامل للبنية التحتية، واستمرار الحصار المفروض، واللجوء إلى استخدام المساعدات الإنسانية كوسيلة ضغط وسلاح، وهو ما يُفضي إلى تجويع جماعي ممنهج يُستخدم كسلاح حرب، في انتهاك صارخ لأحكام القانون الدولي . وتشكل هذه الأفعال، في مجملها، جرائم جسيمة تُصنف كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وعند النظر إلى طبيعتها الواسعة النطاق والممنهجة، والمقترنة بنية مبيتة لتدمير الشعب الفلسطيني في غزة، كليًا أو جزئيًا، فإنها تُجسّد عناصر جريمة الإبادة الجماعية كما نص عليها نظام روما الأساسي في المادة الخامسة، حيث تقع الإبادة الجماعية ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. إن اضطلاع المحكمة الجنائية الدولية بدورها في التحقيق والمساءلة في هذه الانتهاكات لا يُعدّ مجرد التزام قانوني تجاه الضحايا، بل يشكل ركيزة أساسية في منع تكرار جرائم الإبادة الجماعية، وصون العدالة الجنائية الدولية.
رحب مركز جنيف الدولي للعدالة (GICJ) بهذا التوقيف كخطوة نحو المساءلة. ويحث المركز جميع الدول الأطراف في نظام روما الأساسي على التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية والمساهمة في جهودها الرامية إلى تحقيق العدالة في ليبيا، بما في ذلك تنفيذ مذكرات التوقيف السبع الأخرى المتبقية المتعلقة بالوضع في ليبيا. وفي الوقت الذي تشرع فيه السلطات الألمانية في استكمال الإجراءات القضائية المحلية تمهيدًا لتسليم السيد الهِشري إلى المحكمة الجنائية الدولية، يؤكد المركز على وجوب تطبيق الإجراءات القانونية اللازمة وفقًا للمعايير الدولية. كما يدعو المركز ليبيا إلى تمديد قبولها لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية لما بعد عام 2027 لضمان إمكانية القبض على جميع المشتبه بهم ومحاكمتهم وفقًا لذلك. وأخيرًا، يدعو المركز جميع الدول الأطراف إلى تنفيذ مذكرات التوقيف الصادرة بشأن الوضع في دولة فلسطين، لإنهاء الفظائع المتفشية في قطاع غزة والمساهمة في إنهاء الإبادة الجماعية المستمرة.
-------
[1] الوضع في ليبيا: توقيف خالد محمد علي الهيشري بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
[2] القبض على مشتبه بارتكاب جرائم حرب في ليبيا في ألمانيا بموجب مذكرة صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية.
[3] إيطاليا: الإفراج عن مشتبه بارتكاب جرائم حرب في ليبيا بسبب عيوب قانونية في مذكرة التوقيف.
[4] إسرائيل وغزة: المحكمة الجنائية الدولية في حالة اضطراب
[5] إيطاليا: الإفراج عن مشتبه بارتكاب جرائم حرب في ليبيا بسبب عيوب قانونية في مذكرة التوقيف.
[6] الوضع في ليبيا: مذكرة توقيف صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق أسامة المصري نجيم على خلفية اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
[7] الوضع في دولة فلسطين – المحكمة الجنائية الدولية.
[8] قُتل أكثر من 60,000 فلسطيني في حرب إسرائيل وحماس، بحسب وزارة الصحة في غزة.