إحاطة ممثل الأمين العام كلامٌ إنشائي يقفز على الواقع المأساوي في العراق!
جنيف – 12 يونيو/حزيران 2025
تابع مركز جنيف الدولي للعدالة، باستغرابٍ شديد الإحاطة التي قدّمها السيد محمد الحسان، الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدّة في العراق، إلى مجلس الأمن الدولي في نيويورك يوم العاشر من حزيران/يونيو 2025. لقد جاءت هذه الإحاطة لتكرّس نهج التجميل السياسي والتقارير الدبلوماسية الباردة التي تصدر عن بعثة الأمم المتحدة في العراق، والتي تبتعد عن جوهر الحقيقة وتتنصل من مسؤولية المجتمع الدولي في كشف الواقع المرير الذي يعيشه الشعب العراقي، وتتغاضى عن المحاسبة الحقيقية لمنظومة الحكم التي تتسبب بهذا الانهيار المتواصل.
لغة دبلوماسية تتجاهل المعاناة
لقد بدت الإحاطة في كثيرٍ من فقراتها وكأنّها حملة علاقات عامة لصالح الحكومة العراقية، فبدلًا من أن تسلّط الإحاطة الضوء على الانتهاكات المستمرّة لحقوق الإنسان، والفساد المتفشي، وتقييد الحرّيات العامة، والقمع السياسي، والفشل في تقديم الخدمات الأساسية، اختار السيد الحسّان أن يتحدّث عن "الازدهار والاستقرار" الّلذين لا وجود لهما إلاّ في تقارير يونامي البعيدة عن واقع العراق المأساوي. لقد تجاهلت الإحاطة المعاناة المستمرّة لملايين العراقيين، سواء من ضحايا النزوح القسري، أو الاختفاء القسري والاحتجاز التعسفي، أو من يواجهون انتهاكاتٍ ممنهجة لحقوقهم السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية.
تجميل الواقع السياسي وتغييب للمساءلة
. إن الإشادة الواسعة التي وردت في الإحاطة بشأن الأداء الحكومي في العراق، بما في ذلك التحضير للانتخابات المقبلة، تمثل انفصاماً واضحاً عن واقع تغيب فيه الضمانات الأساسية لنزاهة الانتخابات، في ظلّ استمرار هيمنة الأحزاب الحاكمة بميليشياتها المسلّحة، وتهميش القوى المدنية المستقلّة، وتعرّض الناشطين والإعلاميين والمدافعين عن حقوق الإنسان إلى الترهيب والاستهداف. كما أنّ الإحاطة أغفلت الإشارة إلى غياب سيادة القانون، وتفشي الفساد، واستمرار الإفلات من العقاب في جرائم سياسية موثقة، بما في ذلك اغتيالاتٍ واعتقالاتٍ تعسفية طالت نشطاء ومنظّمين لحراك تشرين وما بعده.
ملف النازحين: تغافل عن حجم المأساة
إن تطرّق المبعوث الأممي إلى ملف النازحين، جاء مجتزأً، وتغافل عن حجم المأساة والقصور الحكومي المستمرّ في توفير البيئة الآمنة والعادلة للعودة الكريمة لهؤلاء المواطنين. إن ما أشير إليه من "إصدار سندات ملكية" أو "تقديم تعويضات" لا يعدو أن يكون إجراءاتٍ جزئية، لا ترقى إلى مستوى خطّة وطنية فعّالة باتجاه حلولٍ دائمة لأوضاع كلّ النازحين وليس فئةً واحدةً منهم. كما أن الإحاطة لم تذكر أن عدداً غير قليل من النازحين والمهجّرين قسراً ممنوعون من العودة الى مناطقهم التي استولت عليها المجاميع المسلّحة بعلم ودعم الدولة، وأنّ من عادوا ما زالوا يواجهون مخاطر أمنية، وتهميشاً مؤسسياً، وانعداماً للخدمات الأساسية.
تجاهل تصاعد خطاب الكراهية في العراق
تحدثت الإحاطة عن اعتماد استراتيجية لمكافحة خطاب الكراهية، في حين ان خطاب الكراهية يتصاعد بصورة خطيرة في العراق، ويمارس من قبل اشخاص هم جزء من السلطة، لكنهم أمنوا عقابها. وغالباً ما يوجّه ضدّ مكوّنٍ معين، غالباً ما يكون المكوّن السنّي. أو ضدّ الناشطين والعاملين في منظمات المجتمع المدني متى ما تحدّثوا عن انتهاكاتٍ للسلطات. كما أغفلت الإحاطة استمرار القمع الممنهج لحرّية التعبير والتجمع، واستخدام أدوات الدولة في تكميم الأفواه وملاحقة الأصوات المستقلّة ووصمها بأبشع الصفات.
إهمال خطير لملف الاختفاء القسري والأوضاع في السجون
يعرب مركز جنيف الدولي للعدالة عن استغرابه الشديد من الصيغة العامة والغامضة التي تناول بها ملف المغيبين والمحتجزين، في الوقت الذي يمتلك فيه المجتمع الدولي، بما في ذلك بعثة يونامي واللجنة الدولية المعنية بحالات الإختفاء القسري، معلوماتٍ موثقة حول عشرات الآلاف من الحالات التي تتطلب تحقيقاتٍ مستقلة وشفافة. ويعلمون جيداً تنصل السلطات من التزاماتها الدولية بهذا الشأن. إن الإحالة إلى "الثقة بالقضاء العراقي" دون التطرّق إلى طبيعته الحالية وهيمنة القوى السياسية عليه، تمثل هروباً غير مقبول وتغاضياً عن حجم الانتهاكات الُمرتكبة. إن السجون والمعتقلات العراقية تعجّ بالأبرياء، وبغضّ النظر عن الاتهامات الموجّهة اليهم فأنّهم يتعرّضون الى شتّى صنوف التعذيب والمعاملة المهينة والحرمان من أبسط الحقوق. لقد وثقنا حالاتٍ كثيرة من الوفاة في السجون والمعتقلات جرّاء استخدام التعذيب، وشهد هذا العام 2025 تصاعداً ملحوظاً في ذلك.
التغافل عن ضحايا تشرين ومطالب التغيير
أغرب ما في الإحاطة هو تجاهلها الكامل لضحايا تظاهرات تشرين 2019 وما تلاها، رغم أن تلك الحركة الشعبية قدّمت مئات الشهداء من أجل التغيير، وكانت نقطة فاصلة في تاريخ العراق الحديث. فلم تأتِ الإحاطة على ذكر مطالب المتظاهرين، ولا القمع الوحشي الذي تعرّضوا له، ولا عن استمرار قمع قوى التغيير ومصادرة الحرّيات. فهل يُعقل أن تحذف الأمم المتحدة من تقريرها أي إشارة إلى واحدة من أوسع حركات الاحتجاج الشعبي في تاريخ العراق الحديث؟
غياب تام للمساءلة عن الفساد
لقد تجاهلت الإحاطة بشكل كامل الحديث عن الفساد المالي والإداري الذي يلتهم موارد البلاد ويغذي كل مشكلات العراق. في بلد تجاوزت فيه قيمة الأموال المنهوبة مئات المليارات من الدولارات، وتفشت فيه شبكات المحسوبية والولاءات السياسية، فإن الصمت عن هذا الملف هو تواطؤ ضمني. إن تجاهل الفساد، وعدم مساءلة من تسبّب في إفلاس الدولة، يُفرغ أي حديث ٍ عن "الازدهار والاستقرار" من أي مضمونٍ حقيقي.
المطلوب: تقييم مستقل ونقدي
يؤكد مركز جنيف الدولي للعدالة أن إحاطة المبعوث الأممي لم تكن على مستوى التحدّيات الراهنة، بل كرّرت، في جوهرها، فشل الأمم المتحدة في تأدية الدور المطلوب في العراق، وتطبيعاً للواقع المشوّه تحت غطاء الدبلوماسية الدولية. إن هذا النوع من التقارير، التي دأب ممثلو الأمين العام على تقديمها، هو الذي اضعف ثقة الضحايا وأصحاب الحقوق في جدّية المنظمة الدولية، ودفع باتجاه مزيدٍ من التسييس للعمل الأممي في العراق.
ختامًا، يطالب مركز جنيف الدولي للعدالة بما يلي:
وفي ضوء ما تقدم، يكرّر مركز جنيف الدولي للعدالة دعوته إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن إلى تبنّي مقاربة واقعية، حقوقية، قائمة على الحقيقة والمساءلة، بعيداً عن التجميل السياسي، من أجل دعم الشعب العراقي في تحقيق تطلعاته المشروعة في العدالة، والمواطنة، والحكم الرشيد.
- إصدار تقرير موضوعي وشامل من الأمم المتحدة عن حالة حقوق الإنسان في العراق قبل نهاية ولاية بعثة يونامي، يُعدّ بالتشاور مع منظمات المجتمع المدني والضحايا.
- التحقيق المستقل في ملفات المغيبين والاعتقالات التعسفية بالتعاون مع الجهات الأممية ذات الصلة، مع ضمان المساءلة الكاملة.
- اتخاذ خطوات عملية للمحاسبة، ووقف الانتهاكات، وانهاء حالة الإفلات من العقاب المستشرية في البلاد.
- تعزيز دور الآليات الأممية في متابعة حالة حقوق الإنسان في العراق، والاستماع مباشرة إلى الضحايا، وإعداد تقارير محايدة تُعرض أمام مجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة.