د. هانز فون سبونك

لم يبق الا اعتزازك بنفسك.. وذنبنا. فهل ستسامحنا يوما؟
ما فعلناه بك باسم الحرية والديمقراطية ليس له مثيل في التاريخ. لقد دسنا على حقائق معاناتك، وسعينا بكل الوسائل، حتى الرشاوى، لكي نفوز بالحلفاء، ودفعنا جانبا اولئك الذين عارضوا طموحاتنا الامبراطورية. والقوة السافرة اصبحت البديل عن ذلك الوعد الذي اطلق في عام 1945 عن "انقاذ الاجيال القادمة من كارثة الحرب". انك انت من دفع الثمن.


هل ستسامحنا يوما؟
الدكتاتورية الفظة كانت عذابا لك، لكننا زدنا هذا العذاب بسيف العقوبات الذي سلطناه على رقبتك. كنت تتلقى لعنة العقاب المزدوج على شيء لم يكن لك يدا فيه. مات مليونان من اهلك خلال تلك السنوات العجاف، وربما اكثر. لكن هل يعني هذا الرقم الكثير؟ لم يكن لاحد منهم ان يموت بسببنا، فالجميع لديهم حق الحياة بسلام، مثلنا نحن.دعنا لا ننسى اولئك الذين ما زالوا احياء والذين لن يستطيعوا العيش كما كانوا ثانية. لقد اصبحوا كالصدف الاجوف الخالي من الروح.لم نكن نريد ان نشركك معنا في حريتنا وديمقراطيتنا. كل ما كنا نريد هو ان نمرر لك نفاقنا.


هل ستسامحنا يوما؟
كاميرا الحياة تأخذ صورا حية. دعنا لا نستخدم تلك العدسات التي تظهر لنا الحقيقة. لا يمكننا الزعم باننا لم نكن نحس بمعاناتك؟ ولا يمكننا انكار عدم المشاركة في تعميق آلامك، وبحماس قل نظيره. كنا نعلم بجوع اطفالك. كنا نعلم بموتهم بالالاف. لكننا لم نكن نحس بالذنب. رؤيتنا لك كانت محسوبة بدقة. لم نكن نتردد في منع الطعام عنك، حتى لو كان في ذلك تهديدا لحياتك.جادلنا بان قوافل الغذاء تلك كانت تستخدم كاسلحة دمار شامل. لكننا في نهاية الامر اعترفنا ان الحصار هو اكثر اسلحة الدمار الشامل فتكا.


هل ستسامحنا يوما؟
لوقت طويل قيدنا بيعك النفط، بل وحرصنا ان نأخذ من تلك الاموال القليلة لنملأ خزائن حكوماتنا وشركاتنا الثرية للتعويض عن الخسائر التي قالوا انهم خسروها عندما اعتدت حكومتك على الكويت. كنا نعلم ان الكثير من اطفالك ما كان لهم ان يموتوا لو ان تلك الاموال وصلت اليك بدلا منهم. حرمناك من كل المصادر التي تديم مدارسك ومستشفياتك وطرقات بلدك وجسوره، وحرمناك من الاموال التي كان يمكن دفعها لمدرسي ابنائك واطبائهم وموظفي خدماتهم. بل لم نخجل حتى من حرمانك من تلك القروش البسيطة التي طلبتها لكي تنفقها في الحج وزيارة مكة.


هل ستسامحنا يوما؟
كان واجبنا ان نتابع ماذا تفعل سياساتنا بك. لكننا اهملنا، عمدا، هذه المسؤولية. فقد رضخنا للقوة التي تحكم عالمنا اليوم، واغلقنا اعيننا وصممنا آذاننا عن مشاهدة آلامك وسماع صراخك. لقد قررنا ان برنامج النفط مقابل الغذاء، ورقة التين التي تستر عورة ضميرنا، كان كافيا لمنحك ما تحتاجه. وكذبنا وقلنا ان المك، اذا، ليس لنا دخل فيه. اما حليفنا القديم، دكتاتور بلدك، فاننا اتهمناه بانه السبب في كل ما يجري لك. وكل من اعترض على ذلك منا، اعتبرنا خائنا، او عزلناه، او صغرنا من شأنه، او وصفناه بالخبث، او حتى اعتقلناه. هذه هي الديمقراطية.



هل ستسامحنا يوما؟
بالطبع لم يغب عن ذهننا ان اكثر الضحايا براءة واكثرهم تعرضا للاذى، اطفالك، قادة الغد، قد نالهم القسط الاكبر من عقابنا. فلم يتعلموا كما تعلمت وتعلمنا. تقصدنا منع اصلاح مطابعك، بل حتى الرسائل التي تحمل كل ما يمكن ان يعلمك واطفالك شيئا منعناها من الوصول اليك. منعنا عنك حتى نوطات الموسيقى. وكما قال واحد منكم، لقد دمرنا اقتصادكم وواصلنا تدمير عقولكم. ومرة بعد اخرى، منعنا عنك ما يجعل مياه شربك نقية، او مياه نهرك نظيفة. دعني اذكرك بان تلك المياه الملوثة هي قاتلة اطفالك الكبرى. لم نكن نبالي، فهؤلاء لم يكونوا اولادنا.الجفاف، والقوارض، والاوبئة تحالفت مع زعيم بلدك والحصار ضدك. كان بامكاننا مواجهة كل هذا، لكننا اخترنا اهمالك.


هل ستسامحنا يوما؟
حقا كان هناك "محور الشر". ذلك الحلف من الحكومات ومعاهد البحوث وصنع القرار ومؤسسات الاعلام والشركات الكبرى ممن اقاموا حائط كبيرا من الخداع بينك وبين العالم. العراق؛ القاعدة؛ اسلحة الدمار الشامل؛ والارهاب: قلنا للعالم انها توليفة خطيرة. قلنا للجميع: ثمة مئات الاطنان من الاسلحة الكيماوية والبيولوجية، والكثير من الصواريخ والقنابل والالاف من الارهابيين يستعدون للانقضاض علينا. ثمة خطر ماحق ينتظرنا، وليس لدينا سوى استباقه وتدميره لتجنبه. كل اولئك المعارضين، ممن دعوا الى السلم وتحكيم المنطق والقانون، عوقبوا عقاب "الصدمةوالترويع" قبل ان تصب حمم "الصدمة والرويع" على رأسك. بكل سخرية، اعلنا ان 170 من مفتشي الامم المتحدة وتلك الطائرات المروحية البيضاء، لم تكن كافية لاداء مهمة نزع سلاح العراق. وساعدنا في ذلك فيض متواصل من الوثائق المزورة والتقارير المفبركة والاستخبارات المفتعلة لاقناع الناس بجدوى الحرب عن طريق زرع الخوف في قلوبهم، ولكي نقنع برلماناتنا بالموافقة على الحرب.تظاهرنا بالقلق على سيادة دولتك، لكننا، وبكل ما يحمله فعلنا من تناقض، قررنا اقامة مناطق حظر الطيران، بل واعلنا ان طيارينا هناك في مهام خطرة، ويجازفون بحياتهم دفاعا عنك. لكن ما حصل انهم كانوا يفتون في عضدك ويجازفون بحياتك، وليس حياتهم، قبل ان يشنوا الحرب عليك.


هل ستسامحنا يوما؟
لوقت طويل حاول دجالونا الابقاء علينا اسرى ونحن نشاهد مأساة الحرب والتقدم خطوة خطوة نحو حدودك. كان ثمة انقسام كبير بيننا. الكثير منا كان فعلا يخاف عليك، في حين كان الآخرون لا يستطيعون تمالك رغباتهم بشن الحرب التي خططوا لها منذ زمن طويل. كان على قادتنا ان يشوشوا على كل تلك المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الملحة التي تعصف بمجتمعاتنا.فدون نفطك تنهار استراتيجيتنا في السيادة على مقدرات العالم.


هل ستسامحنا يوما؟
قلنا لجنودنا انهم يحاربون الشر ويدافعون عن الخير. وزودتنا تلك السنوات الطويلة من تحسين تكنولوجيا الموت التي انفقنا عليها المليارات الطائلة، زودتنا بالثقة بان الخسائر ستكون على جهتك انت وليست بين جنودنا. وتأكدنا من ان تقارير الحرب تصورنا كابطال وتمسخك شريرا ونصيرا لطاغية. وكما كان متوقعا لاقل الحروب عدلا في التاريخ، فان هذه الحرب لم تدم طويلا. فاسلحتنا كانت اكثر من جيدة. وفيما كنا نواصل حياتنا في نعمة السلام، كنا نشاهد معاناتك امام رعب الحرب. واي تقرير موضوعي عن الحرب، تلك التي تقتل ابنائك وبناتك، بل حتى جنودنا، كان يعني نهاية الطريق لذلك الصحفي.


هل ستسامحنا يوما؟
كان هناك القليل من الزهور والاعلام والوجوه الباسمة ممن استقبلتنا عندما دخلنا العراق. اين ذهبت تلك الاسلحة الفتاكة التي وعدونا بالعثور عليها؟ لم نحس بالذنب، ولم تكن لنا رغبة في الاعتذار. ولسوء حظك، لم تكن هناك خطة لشفائك. المنتصرون هم المنتصرون. والفوضى لاءمت ما كنا نريده لك. لكننا كنا حريصين على ابار النفط. فانت لم تكن تهمنا، بل العكس. لقد كان ممتعا مشاهدة غضبك وحقدك. لكن الطمع اغتصب تراثنا المشترك. فمتاحفك اضحت فارغة، ومكتباتك محروقة، وجامعاتك مدمرة
لم يبق الا اعتزازك بنفسك.. وذنبنا.

فهل ستسامحنا يوما؟
*هانز فون سبونك، الماني الجنسية، وكيل الأمين العام للأمم المتحدّة، منسق الانشطة الانسانية للامم المتحدة في العراق (1998-2000) إستقال من منصبه إحتجاجاً على العقوبات الإقتصادية ضد الشعب العراقي. وقد قدم هذه الرسالة باسم الغرب بُعيد احتلال العراق عام 2003

اشترك في القائمة البريدية
الرجاء اضافة البريد الإلكتروني الخاص بكم في الحقل أدناه للحصول على النشرة الإخبارية الخاصة بمركز جنيف الدولي للعدالة

اكتب لنا شكواك